وقوع البشر في الذنوب أمر لا مفر منه،
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين: النظر، وزنا اللسان: النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) [رواه البخاري].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)
[الترمذي، صحيح الجامع: 4515]
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)
[صحيح الجامع: 7074].
فالتصور الحالم الواهم للمؤمن الملائكي الذي لا يذنب هو من قبيل الشيطان ليجعل الإنسان يحقر عمله و يقنط من نفسه عندما يقع في الذنوب،
و هذه الأحاديث و غيرها كما قال أحد السلف : "ليس الحديث تسلية للمنهمكين في الذنوب كما يتوهمه أهل الغرة بالله؛ فإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنما بعثوا ليردعوا الناس عن غشيان الذنوب، بل بيان لعفو الله تعالى، وتجاوزه عن المذنبين؛ ليرغبوا في التوبة" ، فكل الأحاديث تحث على تكرار التوبة و ليس تكرار الذنب، فتكرار الذنب يكون عن غير رضا ولا استحلال و إنما لطبيعة الضعف والنقص في النفس البشرية.
حتى و إن تكرر نفس الذنب بعينه فإن ذلك لا يوجب القنوط و لا ترك التوبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلا وَلَهُ ذَنْبٌ يَعْتادُهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، أَوْ ذَنْبٌ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ لا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُفَارِقَ الدنيا، إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفْتَنًا تَوَّابًا نَسِيًّا إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ).
[رواه الطبراني، صحيح الجامع: 5735].
و الحديث فيه رد على وسوسة الشيطان الذي يأتي المؤمن فيقول له ألا تستحي من تكرار نفس الذنب و زعمك للتوبة في كل مرة؟
كما جاء عن الحسن البصري أنه سُئِل ألا يستحي أحدنا من ربّه؟ يستغفر من ذنوبه ثمّ يعود ثمّ يستغفر ثمّ يعود!؟ ،
فقال: وَدّ الشّيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تملّوا من الاستغفار.
*
*
*
حتى و إن لم يستطع المرء ترك الذنب فليعمل في مقابله حسنات تقابل السيئات التي اكتسبها من ذلك الذنب، قال تعالى: {إِنَّ ٱلۡحَسَنَـٰتِ یُذۡهِبۡنَ ٱلسَّیِّـَٔاتِۚ} [سورة هود - 114]،
و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (و أَتْبِع السيئةَ الحسنةَ تمحها)
[الصفحة أو الرقم : 2655
خلاصة حكم المحدث : حـسـن
اسم الكتاب:صحيح الترغيب والترهيب]
وهناك من الحسنات ما هو سهل و كثير الثواب كأن تشرب بعض الماء ثم تحمد الله و تستحضر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها)
[الصفحة أو الرقم : 209 / 1651
خلاصة حكم المحدث : حـسـن
اسم الكتاب : السلسلة الصحيحة]
أو أن تتوضأ فقط و تذكر قوله صلى الله عليه وسلم (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء،
فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء،
فإذا غسل رجليه خرج كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء،
حتى يخرج نقيا من الذنوب) [رواه مسلم]
أو أن تصلي لن أقول لك نافلة، و لكن صلِّ الفريضة القادمة و استحضر عند السجود قوله صلى الله عليه: (إن المسلم يصلي وخطاياه مرفوعة على رأسه، كلما سجد تحاتت عنه، فيفرغ من صلاته وقد تحاتت خطاياه)
[الصفحة أو الرقم : 3402
خلاصة حكم المحدث : صـحـيـح
اسم الكتاب : السلسلة الصحيحة]
و غيرها الكثير و اليسير كالأذكار التي تزرع لك نخلة في الجنة أو تُذهِب الخطايا و إن كانت مثل زبد البحر و إن كانت قد فررت من الزحف و غيرها.
*
*
*
و من أحد الحِكَم -والله أعلم بحكمته- من حتمية الوقوع في الذنوب هي عدم اعتماد المرء على عمله لكن اعتماده على رحمة الله وتقوية رجائه عفوه و غفرانه،
ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: (سددوا وقاربوا وأبشروا، واعلموا أنه لن يُدخِل أحدَكم الجنةَ عملُه ،ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرةٍ ورحمةٍ) [متفق عليه]
ففيه معنىً لطيف يقطع الطّمع على المؤمن أن يبلغ حقيقة التّديّن التامة والقيام بحقوق الله تعالى، بل المطالبة أن يسدّد العبد وأن يقارب فكأنّ الإصابة غير ممكنة، ولكن كلّما كان سهم العبد أقرب إلى الإصابة فهو أقرب للسّلامة.
*
*
*
و الطريقة السليمة التي أمرنا الله بها للتعامل مع الذنوب هي الإسرار بها و عدم الإعلان، مع المسارعة في التوبة، و عمل حسنات ماحية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها،
فمن ألَمَّ بشيءٍ منها فليستتر بستر الله وليَتُب إلى الله) [صحيح الجامع] ،
و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ : يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ). [البخاري ومسلم]
فالاستخفاء بالذنب و المسارعة بالتوبة منه هو الأصل و المأمور به، وليس المجاهرة ولا الافتخار به.
و أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:
( أَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا) قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ، قَالَ : (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)
و هذا الحديث ظاهره التعارض مع الأحاديث التي تطالب بالستر، و كأن الله يطالب بالتستر بالمعصية ثم يقول إن فعل المعصية في السر تُذهِب الحسنات الكثيرة و إن كانت مثل الجبال، فكيف هذا؟ خاصة أن الحديث يذكر أنهم (يأخذون من الليل ما تأخذون) فكيف يقيمون الليل و هو من أجل العبادات و تحبط أعمالهم؟
و الجواب
1. أنه لا تعارض بين أن يفعل المرء أعمالا صالحة و أخرى فاسدة، فقد يكون إثم الفاسدة أكثر من ثواب الصالحة كما جاء عن أبي هريرة رضي الله قال: قال رجل يا رسول الله إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هي في النار) و قال الرجل يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها،
قال له رسول الله (هي في الجنة)
و في رواية أن بعض الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قالوا يا رسول الله فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها؟
قال صلى الله عليه وسلم: (هي في النار) ، قالوا يا رسول الله فلانة تصلي المكتوبات وتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها؟ قال :(هي في الجنة).
[الصفحة أو الرقم 2560
خلاصة حكم المحدث:صـحـيـح
اسم الكتاب:صحيح الترغيب والترهيب]
فقيام الليل في حد ذاته ليس ضمانا لدخول الجنة بغير حساب، و لكنه عمل صالح له ثواب كبير، فإن وُجِد معه عمل فاسد ذو إثمٍ أكبر فإن كفة السيئات ستثقل.
2. كما أن قوله صلى الله عليه وسلم (إِذَا خَلوا بِمَحَارِمِ الله) لا يقتضي خلوتهم في بيوتهم وحدهم، بل قد يكونون مع جماعتهم ومن على شاكلتهم ،
فالحديث فيه بيان خلوتهم بالمحارم لا خلوتهم مع أنفسهم في بيوتهم ، فليس هؤلاء بمعافين ، والمعافى الذي في حديث أبي هريرة الذي يظهر لنا أنه يفعل المعصية الغالبة عليه وحده ، ولذا جاء في الحديث أنه شخص بعين ، وأن ربَّه قد ستره ، (يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ) ، وحديث ثوبان فيه الجمع ( قوْم ) و ( خَلَوا ) .
قال الشيخ الألباني رحمه الله:
الذي يبدو أن (خلوا بمحارم الله) ليس معناها " سرّاً " ، وإنما : إذا سنحت لهم الفرصة انتهكوا المحارم ، فـ " خلَوا " ليس معناها " سرّاً " ، وإنما من باب " خلا لكِ الجو فبيضي وأصفري" .
3. كما أن الحديث وصف هؤلاء المذكورون في حديث ثوبان بأنهم (انتهكوها) و لم يقل "وقعوا فيها أو فعلوها"، و "ينتهكون" هو وصف يدل على استحلالهم لذلك ، أو مبالغتهم فيها في هذه الحال ، وأمنهم من مكر الله ، وعقوبته ، وعدم مبالاتهم باطلاعه عليهم . فلذا استحقوا العقوبة بحبوط أعمالهم ، وليس الوعيد على مجرد الفعل لتلك المعصية.
وهناك أقوال أخرى كثيرة في الجمع بين هذين الحديثين لكن هذه الثلاثة هي الأقوى في نظري.
*
*
*
و تلخيصا لما سبق فإن الاستراتيجية الفعالة للتعامل مع الذنوب تتلخص في :
1. عدم اليأس و الإحباط فنحن بشر و لن نخلوا من الذنوب ما حيينا.
2. التوبة و الاستغفار حتى لو توقعنا الوقوع في الذنب مرة أخرى.
3. عمل الحسنات في مقابل السيئات.
4. الإسرار بالذنب و عدم الجهر به.
نسأل الله أن يتوب علينا و يغفر لنا و جميع المسلمين والمسلمات..
***
ملحوظة: دوري في المقال هو الجمع و الترتيب و محاولة الشرح فقط، و إلا فبعض الفقرات كاملة مقتبسة من مواقع مثل الإسلام سؤال و جواب و موقع المحاور و إسلام ويب و غيرها.