المساكين
كتابٌ رائع , بل من أروع الكتب التي قرأتُ
لكاتبٍ أروع : مصطفى صادق الرافعي
شيخ الأدباء , و حكيم الأدب
ذلك الذي تبهرك تعبيراته و تشبيهاته و تصويراته
و هذه بعض الاقتباسات منه :
- و متى كان العلم و الدين يقومان جميعا على تنظيم الطبيعة في مادتها و إنسانستها ,
لم تجر الإنسانية إلا على ناموس بقاء الأصلح في الجهتين ,
فإذا تخلى بها العلم وحده فإنها فلن تجري أبدا إلا على ناموس بقاء الأصلح في ظاهرها لإيجاد الأفسد في باطنها .
- و إنما محل الإيمان من أهله فوق محل الحكومة ممن تحكمهم , فهو الأمر و النهي بلغة الدم و العصب ,
و هذه الغايات التي تتألف من أجلها الحكومات - كأمن الناس و نظامهم و حريتهم و سعادتهم - هي نفسها محكومة بمسائل تأتي من ورائها طبائع الناس و عاداتهم و معايشهم و مصالحهم ,
فإن لم تكن في النفوس من الدين أصول تأمر و تحكم , و في الطباع من اليقين أصول تستجيب و تخضع , رجعت الحكومة في الناس أداة مسلطة لا تغني كبير غناء في الخير و الشر ,
إذ يحتاج الخير دوما إلى قوتها تحميه , و يحتال الشر أبدا على قوتها تستنقذه ,
- إن المجنون لم يزلّ عن منهج الحياة بجنونه ,
لكنه يتبع سنة هذه الحياة على طريقةٍ خاصة غير ما ألفه الناس أو تواضعوا عليه ,
- و ليت شعري هل يظن من اجتمعت له نفقة ألف سنةٍ أنه سينال فيما بقي من عمره القصير لذةً كلذة عيشه ألف سنة؟؟
و أنه إذا ادخر ما يقوم بمائة ألف إنسان فقد صار هو في الأرض مائة ألف بطن ؟؟
إن حياة الغني على هذا الوجه لا تكون إلا موتا على طريقة الحياة !!
- فليس الإسرف في جمع المال و الكلَب عليه إلا طريقة دنيئة لإنفاق العمر ,
و ليس حب المال و البخل به إلا وجها من بغض الناس و ازدرائهم .
- فإن من رحمة الله أن لا يزال الليل و النهار يتراكضان بيننا و بين النسيان كما يتراكض البريد ,
فيذهبان بشكوى المصيبة , و يرجعان من النسيان بالسلوى أو العزاء أو نحو ذلك ,
- فكلمة السعادة تبحث عن معناها في الناس و أهوائهم و شهواتهم ,
و معنى السعادة يبحث الناس عنه في هذه الكلمة و حدودها و حقائقها ,
و ربما كان هذا المعنى بجملته ملقىً تحت الشمس في زاوية من زوايا القرى ,
أو متفيئا ظل شجرة من شجر الجميز , أو نائما تحت سقف معروش من حطب القطن ,
- و ما الجنون إلا نبوغ فوق الطاقة , و لا النبوغ إلا جنون رقيق !!
- ما أكبرَ هذا الدينارَ في عينك إلا صِغرٌ في نفسك ,
و لا ملأ يدكَ بالحرض عليه إلا فراغُ ما بينك و بين الله ,
و لا كدّك في طلبه إلا أنك مُسخّرٌ ,
و لا أذلّك للمال إلا خضوعُك للآمال ,
و ما أنت إلا في قيدٍ من الهمّ حَبَّبَهُ إليك أنَّ قُفْلهُ هذه القطعة من الذهب !!
- و هل تجد - أعزك الله - في الناس من يحسن أن يوقرك إلا و هو يحسن أن يحقرك !؟
و من يعرف كيف يشكرك إلا و هو يعرف كيف يكفرك ؟؟
و من يقول لك : حفظك الله , إلا و هو قادر أن يقول : أخزاك الله !؟
فالناس عبيد أهوائهم , و أينما يكم محلك من هذه الأهواء فهناك محل اللفظة التي أنت خليق بها,
و هناك يتلقاك ما أنت أهله , أو ما يريدون أن تكون أهله !!
- و ليس في الناس شيء يزيدك كمالا من غير أن يزيدك نقصا ,
حتى إيمانك , فإنه كفرٌ عند قوم !!
و حتى عقلك , فإنه سَفَهٌ لطائفةٍ !!
و حتى فضلك , فإنه حسدٌ من جماعة !!
و حتى أدبك فإنه غليظٌ لفئة .
- و هل في الحياة أشد غموضا من رجلٍ يرى , أو كأنه يرى , أن كل نعمةٍ لم ينلها فهي مصيبة لم تنلْه ؟؟
- و متى يطلب الإنسان الحقيقة و هو جزء منها لا يقف إلا على جزءٍ منها .
- و كأن الحياة ليست أكثر من تجربة الحياةِ زمناً , يقصر أو يطول
و ما العجيب ألا تفلح التجربة في أحد , و لكن العجيب أن لا تنقطع و هي لا تفلح !!
- و العالم كالبحر من السراب يموج به أديم الأرض بما رحبت , ثم لا تملأ أمواجه ملعقة !!
- فالإيمان قوةٌ جبارة , لا تُجمع إلا مِن ردِّ كل أطراف النفس المنتشرة إلى عقدتها الروحية ,
و حبسها أكثر حواسها في حس واحدٍ عنيفٍ مؤلم ,
و وضع المناعم المضنون بها في ذلك المعنى المفتوح المتهدّم الذي لا يمسك شيئاً و هو الزهد ,
و حصر الآلام الطاحنة في ذلك المعنى المطبق المتحجر الذي لا يفلت شيئا و هو الصبر ,
و رد الأخلاق كلها إلى ذلك العنصر الذي يضيف معنى الحديد إلى معنى اللحم و الدم و هو الإرادة ,
و بعد ذلك كله وضع كل شيءٍ إنسانيّ في ضوءٍ من أضواء الكلمة المتألهة المسماة بالفضيلة .
- النخلة السحوق نواةٌ مخزونة في بلحة , و العالم العظيمُ تركيبٌ مخبوءٌ في إنسان .
- فأما الملحد بغير علّةٍ , فهذا لا يوجده أب , و لا تضعه أم ,
إذ يجب أن تكون طباعه له وحده , و ميراثه منه وحده , حتى يصدق زعمه أنه ألحد للبرهان وحده ,
فما يجحد إلا ليجعل نفسه في الرفاهية من الأمر و النهي ,
و يخرج بها من حكم الضرورة ,
و الإيمان كله ضرورات مسلطة الحكم على ما بين المؤمن و نفسه , و ما بين المؤمن و ربه ,
حتى كأنه فيه شيئاً يلذعه بالجمر , فما يستريح عن لذعةٍ إلا قدر ما يجِم ليحتمل لذعةً بعدها .
- من يهرب من شيءٍ يتركه وراءه إلا القبر , فما يهرب أحدٌ منه إلا وجده أمامه ,
و هو أبداً ينتظر غير متململ , و أنت أبداً متقدمٌ إليه غير متراجع ,
و ليس في السماء عنوان لما لا يتغير إلا اسم الله ,
و ليس في الأرض عنوان لما لا يتغير إلا اسم القبر !!
- إنَّ تنازعَ البقاءِ مذهبٌ فلسفيٌ بقريٌ لا إنسانيّ ,
فإن الثيران وحدها التي تجد من القوة أن تتناطح في المجزرة , و تنسى لِمَ هي في المجزرة !؟
- فتحنا القبر و أنزلنا الميت العزيز الذي شُفِيَ من مرض الحياة ,
و وقف التراب المتكلم ( الإنسان ) يعقل عن التراب الصامت و يعرف منه أن العمر على ما يمتد محدودٌ بلحظة ,
و أن القوة على ما تبلغ محدودة بخمود , و أن الغايات على ما تتسع محدودة بانقطاع ,
و حتى القارات الخمس محدودة بقبر !!
- يا عجباً !!
القبور مأهولةٌ بملء الدنيا و ليس فيها أحد !!
أي ذرةٍ من التراب هي التي كانت نعمةً و رغدا ؟؟ و أيتها كانت بؤساً و شقاءاً ؟؟
و أيتها التي كانت حباً و رحمة ؟؟ و أيتها كانت بغضاً و مَوْجدة ؟؟
- واهاً لك أيها القبر !!
لا تزال تقول لكل إنسانٍ : تعال ,
و لا تبرح كل الطرق تفضي إليك , فلا يُقطع بأحدٍ دونك , و لا يرجع من طريقك راجع ,
و عندك وحدك المساواة ,
فما أنزلوا قط فيك ملكاً عظامه من ذهب ,
و لا بطلا عضلاته من حديد ,
و لا وزيراً وجهه من حجر ,
و لا غنياً جوفه خزانة ,
و لا فقيراً علقت في أحشائه مخلاة !!
- إن أحزاننا و همومنا و دموعنا هي كل المحاولة الإنسانية العاجزة التي نحاول بها في أن نكون في ساعةٍ من الساعات مع أمواتنا الأعزاء .
- لعل الموت كما يجرد الحي من روحه , ينتزع من أهله شهوات أرواحهم فيميتهم مدةً من الزمن في القلب و في العين و في الفكر , و بذلك يرد جميع المحزونين إلى المساواة ,
فأهل كل ميتٍ و إن علا , كأهل كل ميتٍ و إن نزل ,
و تموت بالموت الفروق الإنسانية في المال و الجاه و القوة و الجمال , حتى لا يبقى إلا الدمعة و اللوعة و الحسرة و الزفرة ,
و هذه هي أملاك الإنسانية المسكينة !!
- و ليس يُنزِل الحيُّ من أمواته في القبر إلا من يقول له : إنني منتظرك إلى ميعاد !!
أما لو عقلها الأحياء لعرفوا أن الموت هو وحده ناموس ارتقاء الروح ما بقيت في الدنيا ,
و لكن ضجيج الشهوات - على أنه لا يعلو رنة كأس و لا يغطي همسة دينار و لا يخفي ضحكة امرأة - يطمس على الكلمة الأزلية التي فيها كل قوة الصدق و كل صراحة الحقيقة ,
فإذا هي خافتة لا تكاد تثبت , غامضة لا تكاد تبين .
- ويحهُ مِن غريقٍ أحمق !!
يرى الشاطيءَ على بُعدٍ منه , فيتمكث في اللجةِ مرتقباً أن يسبح الشاطيء إليه !!
فيثبت الشاطيء و يدعُ الأحمقَ تذوب ملحةُ روحِهِ في الماء !!
اسبح ويحك و انجُ فإن روح الأرضِ في ذراعيك , و كل ضربةٍ منهما ثمن ذرةٍ من هذا الشاطيء ,
كذلك ساحل الخلدِ يريد من الإنسان الذي هو إنسانٌ أن يبلغ إليه مجاهداً لا مستريحاً ,
عاملاً لا وادعاً , يلهث تعباً لا ضحكاً , و يَشْرَق بأنفاسه لا بكأسه , و ينضح من عرق جهاده لا من عطر لذاته ,
إن روح النعيم الأرضي في ذراعي الغريق الذي يجاهد لينجو ,
و روح النعيم الأزليّ في الحي الذي يجاهد ليفوز .
- يقول الإنسان : ما هي الروح التي تعطي الحياة ,
و تقول آماله : ما هو الموت الذي يستلب هذه الحياة ,
و تقول أطماعه : و ما هو الفقر الذي يجمع على الروح بين الموت و الحياة !؟؟
- و لكن من هو الفقير ؟؟
من هو الكائن الضعيف الذي أحاط به الجهل حتى إنه ليجهل نفسه ,
و أينما يولِّ وجههُ أشاح عنه الناس بوجوههم ,
فلووا رؤوسهم , و صعروا خدودهم , و أمالوا أعناقهم ,
حتى كأن كل رأسٍ في التواءِ عنقه من الأنفة و الاستكبار يمثل علامة استفهامٍ أقامتها الحياة في وجه هذا المسكين !!
- هكذا يعطي المال أهله حتى فضائل غيرهم ,
و يسلب الفقر أهله حتى محاسن أنفسهم .
- قاتل الله البخل و قبّحه ,
فما هو إلا حرصٌ على المنفعة , يشبه عبادة الوثنيين لكل ما توهموا فيه المنفعة ,
و إن كان للحواس نوعٌ من الكفر بالله , فكفر اليد في إمساكها ,
و إن الله لرحيم إذا لم يعاقب البخلاء بما يعاقبون به الناس ,
فليس بين كل بخير و بين الهلاك إلا إن ينقل الله ( الإمساك ) من يدهِ إلى جوفه !!
- و الفراغ الذي يجده الفقير في بيتهِ إنما هو موضع النعمة الضرورية التي بخل بها الغني ,
و هو في الحقيقة موضع التفكك أو الكسر في الآلة التي تديرها شريعة الاجتماع !!
- الإنسان إنما خُلِقَ اجتماعياً ,
و هو بشخصه لا قيمة له و لا منفعة إلا حيث يكون شخصه جزءاً من مجموع ,
لأن اليد الواحدة في الجسم و لو كانت يد ملك و كان فيها زمام العالم , فإنه لا يفارقها عيب أختها المقطوعة .
- و من بديع حكمة الله أنه وضع للإنسانية أصلا من أصول نظامها في ضمير الإنسان ,
فترك له أن يقترف ماشاء من الإثم و المنكر ,
و لكنه جعله من الإحساس بطبيعة الخير و الشر بحيث يكون له من الذنب نفسه العقاب على الذنب ,
حتى إن شر المجرمين ليستعين على مقارفة جرمه بإقناع الضمير ابتداءاً , و أخذه بالحجة من هواه ,
فيخصر في نفسه ما ينزو بها كالشجاعة و النخوة ,
أو ما يتوهج بروح الغضب في دمه كالانتقام و نحوه ,
و ما يطمئن له الضمير في معنى الجناية كمدافعة الضرر و ما إليه !!
- و إذا لم يفلح الجاني في إقناع ضميره أو التلبيس عليه ,
تخلص منه , ففصل بينه و بين العقل بالسكر و ما هو في حكمه , حتى لا يشهد من أمره شيئا .
- فما دام يتمنى أكثر مما يستحق , فهو يتألم بأكثر مما يستحق ,
و لو تأمل الناس لرأوا أن نصف الفقر فقر كاذب .
- غير أني لا أعرف أنه يسلم من لؤم النفس في صنعة المعروف و تطويل المنّ به و تعريض الحديث فيه إلا الأطفال و الفقراء ,
أولئك لأنهم لا يستكثرون الخير , و هؤلاء لأن الخير منهم غير كثير .
- و ليس أشقى ممن مُنع السعادة و أُعطي الرغبة فيها , إلا الذي أعطي السعادة و مُنع اللذة منها .
- تقول : إن لهم متاع الحياة , و لو أنصفت لقلت : إن لهم بؤسهم الممتع ,
فهم يجمعون المال من طرقٍ لا تؤتيه إلا نكدا ,
ثم يرسلونه في طرقٍ أخرى ليجمعوه و يكثّروه ,
و هلم كما تدور دابة الطاحونة ...
- و كأن أم المصيبة حين ولدت وضعت بنتين :
المصيبة التي تؤلم , و النعمة التي لا تلذّ !!
- و ما أحسب الضجر من اللذات قد خُلق إلا للأغنياء وحدهم ,
- و انظر - ويلك - هل ترى الفرق بعيدا بين الضجر من شيءٍ لأنه موجود , و الضجر من ذلك الشيء لأنه غير موجود !؟
بين عدم الشعور باللذة و بين الشعور بعد اللذة ؟؟
بين ألم الغنيّ الذي لا تجده أبداً إلا و يشكّ في أنه سعيد ,
و بين ألم الفقير الذي لا تجده أبداً يشك في أنه تعيس ؟؟
- و متى كان الحرص على الحياة قد صار خوفاً من الموت ,
و رجع الخوف من الموت - مع ذلك البلاء - خوفاً من الحياة ,
فهذه - أصلحك الله - حالة من الجنون تستلب العقل .
- فمم يخاف هذا الإنسان الجديد ؟؟
و ليس فيما ينزل به إلا ما نزل بمن قبله !
و ما هو بخالدٍ و لا هو بمتروكٍ لما يحاوله ,
- لا العلم و لا الجهل يرتاب أو يشك في الموت ,
لأنه ليس على الأرض " حيٌّ قديم " !!
لأنه ليس على الأرض " حيٌّ قديم " !!
- لسنا نجهل أن للنفس حظاً ليس للجسد , و أن الفارس لا يُربط في الاسطبل و إن كان جواده فيه ,
غير أننا مع ذلك نحاول أن نغذو النفس من اللذة الجسمية , و أن نعلف الفرس و الفارس من طعامٍ واحد !!
- و ليت شعري ما هي هذه الشهوات ؟؟
أما إنها في الحقيقة نزعاتٌ طبيعية لا بد منها بمقدار , لأن الطبيعة الإنسانية تعالج نفسها بما يعينها على البقاء .
- أفٍ لهذه الدنيا ,
يحبها من يخاف عليها ,
و متى خاف عليها خاف منها ,
فهو يشقى بها و يشقى لها ,
و مثل هذا لا يكاد يطالع حادثةً من حوادث الدهر إلا خُيَّل إليه أن التعاسة قد تركت الناس جميعا و أقبلت عليه وحده ,
- الإنسان كله يا بنيّ منطوٍ على رأسه ,
و ماهذا الجسم إلا أداة منها ما يحمل الرأس , و منها ما يحمل إليه و منها ما يحمل عنه ,
فالجسم دابة من الدواب لا أكثر و لا أقل ,
- فإذا نزل به همٌّ و أدركهُ خور الطبيعة و ضعف الإنسانية فلم يستطع أن يخلص منه , صرفهُ إلى جهةٍ غير جهته ,
و استخرج منه معنىً غير معناه ,
و قابل بين راحة الرضا به و تعب السخط عليه ,
و نظر في مبلغ شرهِ و ما عسى أن يكون حاله لو نزل به ما هو شرٌ منه ,
و جمع بين الدعاء لله أن يصرف عنه ما وقع ,
و بين الحمد لله على وقايته مما كان يمكن أن يقع ,
- و من ههنا تفاوَتَ الناس ,
فمنهم من تراه كأنه يحاول أن يكشف عن جزئه الذي في الغيب و يصل بينه و بين حاضره فيتوهم في الحياة ماليس فيها و يسخرها لأوهامه باطلا ,
و منهم من يُقبِل على شأنه و يأخذ الحاضر بما فيه و يعرف أنه حي , و لكن على شروطٍ لابد منها للحياة .
- و أشقى الناس من يتوقع الشقاء ,
و هو لا يعلم من حاضره ما الله صانعٌ به ,
و لا من مستقبلهِ ما الله قاضٍ فيه ,
و كأنه يتظنّى بالله , فيرى أنه تعالى قد وكلهُ إلى نفسه و أيأسه من رحمته , و صرف عنه تيار الغيب المتدافع بالحوادث و الأقدار بين شاطيء الليل و النهار ,
فلا يدفع إليه جديدا و لا يصرف عنه قديما ,
و كأن الزمن كله يتحرك و هو ثابتٌ قارٌّ قد حصره الهم من هذا الفلك في زاوية,
و وضعه الدهر من بيت الاحزان موضع القافية ,
و المصيبة في هذا أكبر من كل شيء , لأنها لا شيء !!
- و صنما من صنام الحياة , يعرفه العاقل للتحطيم و يحسبه الجاهل للعبادة !!
- فهو يتوهم الخوف , ثم يخاف مما يتوهم , ثم يخاف أن يكون الأمر أكبر مما توهم ,
ثم يخاف أن تخذله الأقدار فلا يقوى على ذلك ,
ثم يكون أشد خوفه من أن يستمر له ذلك ,
فهو من خوفٍ إلى خوف ,
- فما عسى أن تكون هذه الآمال , و هذه المنافسات و هذا النزاع , و هذا الصراع و هذه الأفراح و هذه الأتراح ؟؟
و كل ما إلى ذلك مما هو مدلول الحياة إلا باطلا نستمتع به قليلا ثم يظهر أنه متاع الغرور ,
- و ما عسى أن تكون الحياة بكل ما فيها إلا مدةً محدودة على ظهر الأرض ,
تجعلها أوهام الإنسان و مطامعه و حماقته و جهله و كبرياؤه كأنها الأبد كله ,
- و متى صارت حياة رجل من الناس إلى أن تكون واجبات يتنجزها و يستقضيها من نفسه ,
فما لشهوات البدن موضع إلا كموضع النار من يدي المصطلي :
لا يُراد منها إلا حرها ,
و لا يطلب من حرها إلا قدر معلوم ,
و لا يبتغي هذا القدر إلا مدة بعينها ,
و لا تكون هذه المدة إلا بمقدار ما يصلح أو يدفع الأذى ,
لا سرف في كل ذلك و لا هوان و لا مضيعة ,
- ألا فليعلم الإنسان أن هذا العالم لا يصلح على غير ما هو عليه ,
و ما لا بد منه لنظام الحياة فسيأتي إن خيراً و إن شراً ,
فكلنا يسمي الصعاب التي تعرض له في طريق الحياة عقبات , لأننا لا نبصر ما وراءها , و لا نعرف في أي موضعٍ تَقرُّ من نظام الحاضر أو نظام المستقبل ,
و هي لو تعلمون وسائل لما بعدها , فما تُراد لنفسها أكثر مما تُراد لغيرها ,
و رب صخرةٍ حالت في طريقك لتلتفت إلى هاويةٍ من ورائها , أو تتقي بها عدواً يدلف إليك من ورائك .
- فما قل من ينتهز من يومه قبل أن يذهب يومه , و ما أكثر من يريد غداً قبل غد
- و هل التمني أن تكون حوادث الحياة ما أريد أنا و تريد أنت و ما يريد فلان إلا كما يتمنى كل أنسانِ من هؤلاء أن يكون غير نفسه , و كما يتمنى الطفل حين يجيبُ معلمَهُ خطأً - و يعلم أنه اخطأ - أن يكون الجواب حقيقةً كما أخطأ !!
- فالناس بين طامعٍ جريء , إن نفعته الجرأة ذهب بمنفعتها الطمع ,
و قانعٌ ساكن , إن أفادته القناعة ذهب بفائدتها السكون ,
و متحيِّلٌ على الغيبِ يستجمع له , و الواقع قد نفذ فيه ,
و متبرمٌ بحاضرهِ يبني على السماء , و الأرض تهدم منه ,
و قليلٌ من الناس المؤمن الوثيق الذي يشعر بقوة الله في كل ضيق ,
فإن لم ينصره الله على الحياة لا يخذله فيها ,
و تراه لا يشك فيما يعرف و لا يريد أن يعرف ما يشك فيه ,
و هو يعلم أنه ليس شيء من المصائب و النعم يمكن أن ينزل في غير موضعه المهيأ له .
- إن الرجل الحر لا يعرف على أي حالةٍ يعيش , إلا إذا قرر لنفسه على أي حالةٍ يموت .
- إن الرجل الحر لا يعرف على أي حالةٍ يعيش , إلا إذا قرر لنفسه على أي حالةٍ يموت .
- و كما يفقد أكثر الناس السعادة في كثرة الاستعداد لها و الإغراق في وسائلها ,
يجدها بعضهم في إهمالها حين لا يبحث عنها و يذهب باحثاً عن حقيقة الحياة .
- كل شيءٍ ما شئت أن تتوهم , و لكن الحياة هي الحياة ,
- الحياة يا بني مدة ,
و المدة ضائعة لولا العمل ,
و العمل على مقدار المنفعة ,
و المنفعة بآثارها ,
و هذا الآثار هي تاريخ الحياة ,
- ويحكم أيها الأغنياء ,
متى رأيتم ثمرةً لا تسقط أبداً من غصنها الأخضر ,
أو ثمرةً تسقط من الغصن ثم تُرَدُّ إليه فتعلق به و تنضج عليه , فاعلموا يومئذٍ أن غناكم هذا نعيمٌ لا رزيئة فيه و لا مصيبة ,
لأن هذا الكون حينئذٍ يكون فوضى , لا نظام له و لا قرار .
- إني رأيت في معاشرة الحزين للحزين شيئاً من الفرح يتنفس به الحزن على الحزن ,
فليت شعري أي مهنأٍ أكثر لذة و أكثر إمتاعاً من معاشرة اثنين كلاهما يهنأ للآخر ؟؟
- إن هذه الأنفس تشعر بمقدار مافيها من الإحساس , لا بمقدار ما في الحقيقة من مادة الشعور .
- و ليس في الناس أحمق ممن يدفع نفسه إلى ما يظن , في حين تدفعه نفسه إلى ما يستيقن
- فمن لم يؤمن بالله وجد في لغتهِ لفظا لـ(القدر) و هو الإيمان بعمل الله ,
فإن كفر بالقدر , اعترضته نفسه بكلمة ( الأمل ) و هو الإيمان برحة الله ,
فإن جحد هذه , اعترضته طبيعة الإنسانية بكلمة ( الحظ ) و هو الإيمان بقدرة الله ,
و لا أحسب أن في الأرض رجلا يكفر بهذه الأربعة جميعا .
..........
....
..
.
رابط الكتاب كاملا من موقع المكتبة الإسلامية هنا :
http://sh.rewayat2.com/adabe/Web/5418/001.htm
........
و لا تنسونا من الدعاء بالخير ,
دعاء بحضور قلب من فضلكم ,
جزاكم الله خيرا
......